هل يمكن لمجرد كلمات أن تدفع بشخص للانتحار؟ أكيد لا ! إلا اذا كانت الكلمات تستهدفه شخصيا كالتهديد مثلا ، لكن التاريخ يروي عكس ذلك وبالتحديد في عام 1774 عندما نشرت رواية آلام "الشاب فرتر" (The Sorrows of Young Werther) للكاتب الالماني المشهور "يوهان فولفغانغ فون غوته" حققت نجاحا باهرا وكانت من بين اكثر اعماله شهرة بحيث ساهمت في وضعه على رأس قائمة أعظم ادباء ومفكري اوروبا. "يوهان غوته" كان له دور في اثراء الادب الالماني والعالمي فقد كان واسع الافق مقبلا على العلم متعمقا في دراساته، وله بالغ الاثر في الحياة الشعرية والفلسفية ولايزال التاريخ يشيد بأعماله الخالدة حتى اليوم. تنوعت اعماله بين الشعر والكتابة المسرحية واهتم بالثقافة والادب الشرقي، فما قصة هذه الرواية التي أودت بحياة البشر ؟
اكتشاف الرواية قاتلة
اشتهرت هذه الرواية بتأثيرها سلبا على عقول القراء خاصة من فئة الشباب لدرجة ادخالهم في اكتآب حاد، بحيث شهدت أوروبا موجة انتحار لا مثيل لها وكان يتم العثور يوميا على العشرات من القتلى، رغم أنهم لاتربطهم اي صلة قرابة الا انهم انتحروا جميعا بإطلاق النار على انفسهم ومرتدين الزي نفسه مما جعل الشرطة تعتقد أن هناك رابطا مشتركا بينهم! وسرعان ما توصلت التحريات إلى حقيقة صادمة وهي وجود نفس الكتاب في رفوف مكتباتهم وهو كتاب آلام فرتر. واتضح ان القراء تعاطفوا مع بطل الرواية الذي عانى كثيرا بسبب عشقه لفتاة ليست من نصيبه، وأطلق على موجة الانتحار تلك ب "حمى فرتر" .
ملخص رواية آلام فرتر
الرواية تدور حول الشاب "فرتر" وهو فنان بسيط من الطبقة الوسطى وقع في حب فتاة تدعى "لوت" صاحبة شخصية قوية تتسم بالمسؤولية وتعتني جيدا بعائلتها خاصة والدتها المريضة ولسوء حظه انها كانت مخطوبة لأحد أصدقائه "ألبرت" ولا يمكن ان تكون له ابدا، وعلى الرغم من حب "لوت" لفرتر بسبب تطابق شخصيتيهما الا انها كانت وفية جدا لخطيبها "ألبرت" وصعب على فرتر تجرع مرارة تلك الحقيقة فلطالما آمن بأنها توأم روحه وخلقت لتكون له . كانت هذه المشاعر مضمون الرسائل التي يبعثها فرتر لصديقه "ويليم" والتي تفنن الكاتب في وصفها بدقة، فيغادر المدينة أملا في نسيانها ويعمل في محكمة ب "فايمار" وبعد مدة يعود الى مدينته لعله يلقى اخبارا سارة مثل فراق لوت بخطيبها لكنه ينصدم باخبار أسوء وهي وفاة احد اصدقائه وبقاء لوت مع خطيبها، وذات مرة يجرؤ على تخطي دائرة الصداقة معها بمحاولة تقبيلها فيخسر بذلك صديقه البرت ويخسرها هي للابد عندما تطلب منه الخروج من حياتها، في النهاية يبعث رسالة لها يطلب فيها ان ترسل له مسدس الخاص ل "البرت" بحجة انه يحتاجه في رحلة فتبعثه له غير مدركة انها بذلك تساهم في انهاء حياته، ويطلق النار على رأسه ليموت بعد نصف يوم في غرفة الانعاش تحت انظار "لوت والبرت" .
حقيقة قصة الشاب فرتر
القصة في الواقع عبارة عن جزء من حياة الكاتب "يوهان غوته" لانه عاش نفس القصة الغرامية مع فتاة تدعى شارلوت من مدينة "فيتسلار" وهي خطيبة احد اصدقائه ولم يستطع التخلص من عشقه لها فعانى من نفس القهر الذي اصاب بطل الرواية لذلك قرر تخليد حبه في رواية قد تمس قلوب الناس، واشاد "نابليون بونابارت" بالرواية واصفا اياها ب "أعظم ماجاء به الادب الرومانسي بأوروبا كلها" .
إلا أن غوته لم يتصور يوما أن يسلك الشباب طريق فرتر للتخلص من اوجاعهم فبعد نشرها بعدة اشهر بدأت تقارير الانتحار تغزو الجرائد في دول اوروبية مختلفة لشباب يرتدون سروالا ازرق ومعطفا أصفر وهي نفس الملابس التي كان يرتديها فرتر عندما قام بقتل نفسه، وتم العثور على جثث الشباب في اماكن متفرقة مثل الجسور والمنازل وخلف البنايات وبأيديهم مسدس، وتم تسجيل الفين حالة انتحار.
شكلت هذه الحادثة ازمة اجتماعية في الدول الاوروبية ورغم تردد زعماء الكنيسة في ادانة الرواية بشكل مباشر الا ان حالات الانتحار تتزايد بشكل رهيب وخوفا من حدوث انتحارات جماعية محتملة لم يكن بيد الكنيسة الا حظر الرواية في البلدان الاوروبية ومنها النرويج، الدانمارك والنمسا ومدن المانية. اما المدن التي لم تحظرها من النشر قامت بطباعة نسخ معدلة من الرواية لاتنتهي يانتحار و تحمل بغلافها عبارة "كن رجلا ولا تتبع خطواتي" واستغرق ذلك عدة سنوات حتى انخفظت نسبة الانتحارات بسبب هذه الرواية، وكانت النرويج آخر من رفع الحظر عنها سنة 1820.
وبعد مرور قرنين وبسبب هذه الحادثة التاريخية قام عالم الاجتماع والبروفيسور في جامعة كاليفورنيا "دافيد فيليبس" أول مرة بإطلاق مصطلح "تأثير فرتر" على حالات "الانتحار بالتقليد" suicide copycat وكان ذلك عام 1974 لتصبح مادة تدرس في تخصصات علم النفس والاجتماع.
تعليقات
إرسال تعليق
شكرا على تفاعلك معنا، سيصلك الرد لاحقا