مقدمة عن الكتاب
رواية العطر - قصة قاتل أو بالالمانية das parfum للكاتب الالماني باتريك زوسكيند نشرت سنة 1985 عن دار نشر سويسرية.
احداث الرواية تدور في اجواء القرن 18 بمدن فرنسية تحكي عن حياة "جان باتيست غرونوي" Jean Baptiste Grenouille وهو فتى غريب الاطوار لديه حاسة شم خارقة للطبيعة تجعل منه مخلوقا متجردا من مفهوم الخير والشر ولا يردعه وازع ديني او اخلاقي امام رغبته في تملك الروائح والعطور.
ملخص رواية العطر Das parfum
* تبدأ الرواية بأم متشردة تنجب طفلا في احد اسواق السمك بباريس، وتقرر التخلي عنه كما فعلت باخوته الذين رمتهم بين اكوام القمامة التي تعج باحشاء وفضلات السمك لكن الرضيع الذي هو بطل الرواية يتشبت بالحياة ويأبى ان يلقى مصير اخوته فيصرخ عاليا حتى ينتبه اليه احد المارة لينفضح أمر والدته المجرمة ثم يقوم الناس بانقاذ الرضيع بين سرب من الذباب ورؤوس الاسماك المقطوعة ويتم اقتياد امه للعدالة التي تقرر اعدامها تحت المقصلة .
* بطل قصتنا اسمه "غرونوي" وهو رضيع يتنقل من مرضعة الى اخرى اذ لم ترغب اي واحدة من الاحتفاظ به كونه شديد الجشع ويرضع من اثنين، وآخر مرضعة له تكتشف انه لا يملك رائحة كباقي الاطفال فتعتقد انه مسكون بالشيطان لتأخذه الى احد الرهبان "تيرير" لكنه بدوره يتخلى عنه بعدما يكتشف تصرفا غريبا من الطفل وهو يقوم بشم ماحوله بطريقة غريبة ومقلقة تجعله يبدو كحيوان عدواني فلا يتردد في ارساله لدار الايتام الذي تديره السيدة "غايار" بمقابل مادي، وهناك يتلقى غرونوي معاملة شرسة من طرف اقرانه بعدما حاولوا قتله خنقا في اول يوم له بالميتم وينبذونه لانه شخص غريب الاطوار .
* وهكذا يمضي غرونوي طفولته بدار الايتام منبوذا ويتلقى انواعا مختلفة من العذاب الجسدي والنفسي لكنه رغم ذلك يضل متشبتا بالحياة فبعدما قضت امراض الطفولة على نصف اقرانه إلا انه استطاع هو النجاة منها، لذلك وصفه الكاتب بحشرة القراد القابعة تحت الشجرة والتي لا تملك الحياة ماتقدمه لها سوى النجاة المتكررة من كل شتاء .
* عند بلوغ غرونوي سن التاسعة تأخذه مدام "غايار" عند الدباغ "غريمال" الذي كان معروفا بحاجته للاطفال كيد عاملة وكان رجلا فضا وغليظا. ويعيش غرونوي بشغف وسط كنز من الروائح النتة المنبعثة من المدبغة والتي رغم نتانتها فهي تشحذ حاسة شمه وكانت فرصة له لاستكشاف باريس والتعرف على جميع الروائح التي تميزها شبرا شبرا لأربع سنوات .
* ذات مساء في زنقة "دي ماري" تمر بجانبه فتاة شقراء ذات عيون خضراء فينجذب غرونوي الى رائحتها الساحرة ولم يسبق له ان شم مثلها مما يخلق فيه رغبة عنيفة في امتلاك عطر جسد الفتاة فيقوم بتعقبها وخنقها حتى الموت دون رحمة، بل يغرق في متعة الاستنشاق والمجون لتكون تلك لحظة حاسمة في تحديد هدفه الذي سيسعى من خلاله ان يغدو اذكى عطار بالعالم .
* ينتشله من تلك المدبغة العطار "بالديني" بعدما يتعرف على مواهبه الخارقة في التمييز بين الروائح ومزجها ببراعة ليشتغل الاثنان في مواجهة شرسة لاشهر العطارين بمدينة العطور بباريس وهناك يتعلم غرونوي تقنيات التقطير واستخلاص الروائح من الزهور ليتحصل على شهادة عطارة.
* يقرر الرحيل الى مدينة "كراس" لتعلم تقنيات متطورة كالاستشراب ويترك لدى بالديني كما هائلا من الخلطات التي تضمن رخاء معطرته حتى بعد رحيله، لكن المحل ينهار على بالديني وزوجته في اليوم الذي يغادر فيه الفتى .
* اثناء رحلته ينعزل في مغارة بجبل "كانتال" لسبع سنوات بسبب قرفه من البشر، وهناك يكتشف حقيقة صادمة عنه وهي ان جسده لا يفرز اية رائحة فكان احساسا شبيها بالعدم واللاوجود خاصة وان ادراكه للعالم يتم من خلال الروائح مما يدفعه لمغادرة الجبل واستئناف رحلته نحو "كراس" كي يصنع عطرا يمنحه رائحة بشرية ليتوصل الى خلاصة مفادها ان السيطرة على قلوب البشر تتم من خلال التلاعب بالروائح لذلك يصبح هدفه الاسمى ابتكار عطر يجعله الها يركع له الناس .
" ولعبق الرائحة الطيبة قدرة على الإقناع أقوى من الكلمات ونور العين والشعور والإرادة. إنها قدرة على الإقناع لا تقاوم، إنها تتغلغل فينا، كما الهواء في رئتينا، إنها تملؤها، تتعشق فينا، و ليس من وسيلة لدرئها"
* يعمل بشهادته في معطرة السيدة "أرنولفي" يتعرف على عطر أخاذ لجسد شابة وهي ابنة احد اعيان تلك المدينة تدعى "لور ريتشي" وهو أبلغ من عطر الفتاة الشقراء بشارع "دي ماري" ولا يزيده ذلك إلا الهاما في احتراف تقنيات استخلاص الروائح من البشر فيبدأ في تنفيذ سلسلة من الجرائم لغرض الوصول لهدفه ويقضي على 24 فتاة عذراء من اجمل فتيات المدينة فيستفيق الناس كل يوم على جثث مقطوعة لتدخل مدينة كراس في مرحلة من الرعب بحثا عن هوية المجرم المتوحش .
* تكتمل خلاصة عطره بعدما يقضي على اخر ضحاياه وهي "لور ريتشي" التي لم تسلم رغم توفير والدها لحراسة مشددة خوفا من تلقي نفس مصير العذارى وبعد افتضاح امر المجرم غرونوي يتم اقتياده لساحة الاعدام بحضور الالاف من سكان المدينة، وامام المقصلة يقوم بصب خلاصة عطره السحري على جسده مما يدخل الناس في مجون ونشوة عارمة يفقدهم صوابهم تحت انظار غرونوي المتسلط ويغدو بريئا حتى انه يكتسب قداسة لدى السكان بفضل عطره المعجزة، وسرعان ما يغادر المدينة لانه يدرك ان مفعول العطر مؤقت، بعد ذلك يعود ادراجه الى مسقط رأسه سوق السمك الذي يعج بالسكارى والعاهرات يفرغ ما تبقى من العطر على جسده ثم ينجذب هؤلاء الى رائحة الحب التي تغمر المكان ولاشعوريا يقومون بنهش جسده وافتراسه بعنف، وما ان تمر نصف ساعة حتى يختفي غرونوي من الوجود تماما في المكان الذي اتى منه.
تحليل ومراجعة رواية العطر
ماتحمله الرواية من رسائل وفلسفة عن النفس البشرية لا يمكن تلخيصه في مقال واحد، فقد سال الكثير من الحبر على اوراق النقاد والمدرسين في محاولة لتحليل هذه الرواية الفانتازية المضمخة بالعطر، فهي بمضمونها تعتبر قصة عن الهويةو التواصل البشري والابحار في كينونة الانسان واغلب أحداثها تحلل الطبيعة البشرية بمنضور علمي وغرائزي وحتى روحاني، وذلك باستخدام أنف البطل كعين بصيرة لاستكشاف العالم، فالروائح قد تعبر عن الحب اوالنفور والحرمان وقد تعبر عن القلق او طيبة قلب وخلال المعرفة العميقة التي اكتسبها البطل جعله يرسم حلما لامتلاك عطر يجعل الآخرين يموتون عشقا به وقد ضحى في سبيل ذلك بخمس وعشرين عذراء وعندما صنع عطر العشق صنع به نهاية لنفسه.
فيم يخص طريقة السرد فقد نجح الروائي الالماني باتريك زوسكيند في ادماج عقل القارئ مع ازمنة واماكن الرواية بحيث ترسم كلماته بدقة الازقة الباريسية والبيوت وتعابير الأوجه، بالاضافة الى استحضار روائح الاجساد وعطور الازهار وبقايا اللحم النتن على الجلود وروائح الدباغة وكأنه يتبختر في كل صفحة بعطر جديد.
شخصية القاتل غرونوي
شخصية غرونوي تتسم بالعزلة والابداع، التأمل وحب الاستكشاف، لا يعير القيم الاخلاقية اية اهمية ولا ضمير له يخبره بما هو صواب وباطل ولايندم على اذية غيره، وعكس ما يصفه النقاد بشخصية خيالية او غامضة فهو في الحقيقة عبقري متوحد يحتفظ في ذاكرته بروائح الموجودات من حوله ويتعرف بسهولة على تراكيب المواد ويستطيع رؤية الاشياء من وراء الجدران بأنفه.
يعطي الكاتب فرصة للقارئ للتعرف على العالم الداخلي لبطله اثناء خلوته بالجبل متراميا وسط الطبيعة في عزلة تامة عن روائح البشر بما يلائم شخصيته العدائية الانعزالية متعففا بأنفه عن نتانة شوارع باريس وسكانها وكأن الكاتب هنا يقربنا من غرونوي الذي يبدو انه قد نصب نفسه الها او امبراطورا في تلك العزلة الخرساء، كما انه يذكرنا بقبح الانسان وجماله في آن واحد من خلال استحضار غرونوي لرائحة الفتاة التي جعلته يهيم بها عشقا لحد قتلها ، وتارة يتذكر روائح البشر النتنة وارواحهم الخبيثة، وبطريقة غير مباشرة ينجح الكاتب في التحايل على تفكير القارئ بجعله يتعاطف مع البطل عندما يكتشف انه بلا رائحة أي بلا هوية كيف لا وهو الذي يميز الوجود والاموجود بالروائح فقط ولايعرف الحد الفاصل بين الحياة والموت إلا بما يتصل بوجود او غياب للرائحة ثم فجأة يكتشف انه غير موجود اساسا ولا قيمة له، هناك من النقاد من ذهب الى الاعتقاد بأن جعل البطل بلا رائحة هو تحصين له من نتانة البشر وقرفهم أو ربما دفع متعمد للقارئ بالتزام موقف حيادي حياله فلا هو بمقرف ولا طيب ولاهوية له مما لا يفتح مجالا للحكم عليه، وهذا السبب الذي يدفعه لمغادرة خلوته بحثا عن هوية له وكأنه عذر مسبق لما سيرتكبه البطل من ابشع الجرائم وهنا تمهيد لما سيحدث في الاجزاء القادمة.
النهاية تحمل اجمل ما يمكن ان يقدمه الادب المعاصر من رمزية ومعاني، تتجلى في صب غرونوي العطر المعجزة على جسده. يعتقد بعض المحللين ان الكاتب هنا لا ينوي انقاذ البطل عن طريق تهريبه للعالم الآخر حتى ينجو من العقاب، بل يفسر لنا بطريقة عبقرية الدافع الذي جعل غرونوي يرتكب جرائمه فهو كباقي البشر لديه غريزة تملك ماهية الآخر عندما يعشقه وهو ما ميزه بأنفه عطرا سحريا ينبعث من اجساد الحسناوات وحتى لا يدين القارئ فعلته الشنيعة يصب غرونوي العطر المستخلص من العشق والهيام على جسده لتصل انوف الناس ومن فرط عشقهم لرائحته يتلقفونه الى حد قطع أوصاله بين ايديهم حتى تضيع اشلاءه بين مجانين الحب وهكذا يخبرنا بأن القوة التي دفعتهم لقتله هي نفسها التي تسكن في ذاته منذ ولادته.
ومن بين النظريات الاكثر تصديقا هي ان كون البطل منبوذا ويرى نفسه بلا هوية فقد صنع كينونة تقارب الآلهة في كمالها حتى يحني الناس بين رجليه، ولابد انه اختار نهايته بتلك الطريقة على ايدي آكليه باعتبارهم وحدهم من تصرفوا بغريزة الحب نحوه وفضل الموت بالحب الغريزي المتوحش على ان يعيش منبوذا بين الناس.
تعليقات
إرسال تعليق
شكرا على تفاعلك معنا، سيصلك الرد لاحقا