القائمة الرئيسية

الصفحات

حب في زمن الكورونا - قصة اجتماعية حقيقية

حب في زمن الكورونا | قصة اجتماعية حقيقية


تنويه: احداث هذه القصة واقعية !
حدثت في منطقة بمدينتي منذ شهرين تقريبا في ضل جائحة فيروس كورونا، وقد قمت بتغيير الاسماء حفاظا على خصوصية العائلة، واحتفظت باسم عماد الذي هو الاسم الاصلي للشاب، وهذا بطلب من البنت التي اخبرتني بتفاصيل قصتها، لعله يتعرف على نفسه.

الفصل1

رن هاتفها فجأة فقفزت من سريرها وبيدها طبق الاندومي مسرعة لتتفقد الرسالة، حاولت ادخال الكود لفتحه باصابعها الملطخة بزيت وبهارات الاندومي لكنها فشلت، لتنزعج بصوت عال وفمها لايزال مشغولا بالمضغ: اوووه افتح هيا....هيا بسرعة
 لترمي بالطبق بعيدا وهي التي تعشقه اكثر من اي شيء آخر في العالم، من الواضح انها تنتظر رسالة من شخص مهم، شخص أعز الى قلبها من طبقها المفضل.
تبتسم وهي تقرأ الرسالة بصوت خافت بينها وبين نفسها: سآتي غدا لرؤيتك، حددي المكان المناسب وسأكون هناك على الساعة العاشرة...قبلة، باي
تضع هاتفها لتغوص في بحر من التخيلات والاحلام، وفي رمشة عين يقوم عقلها الساذج بتصور آلاف السيناريوهات عن موعد الغد، وتلتقط هاتفها مرة اخرى لتتفقد صوره التي تغزو جوالها انه الشاب الذي تحلم به، ليس بالمواصفات التي تشترطها كل بنت، بل كما تريده هي بالذات، فهي مختلفة عن بقية البنات، تفضل نوعا غريبا ونادرا ماتجده في مجتمعها، بينما تنجذب قريناتها بمفتولي العضلات واصحاب اللحية الكثيفة وشوارب مثل ابطال المسلسلات التركية، فهي بالعكس تفضل شابا معتدل القامة ابيض البشرة، اسود الشعر، وجهه صغير يتخلل ذقنه شعيرات خفيفة اقل مايمكن تسميتها بلحية، نعم، انها مواصفات الشاب الكوري الذي تتمناه كل فتاة عاشقة للكيبوب ومهووسة بالدراما الكورية، تلك الفتاة العشرينية التي تجلس هناك غارقة في تخيلاتها الطفولية تعيش مثل الكوريين تاكل مما يأكلون وتقلد تصرفاتهم وحتى تحليلها للأمور يبد يبدو مختلفا، اذ تعيش في كوكب وردي ترى فيه كل شيء ضريفا، فمثلا عندما يقوم اخوها الصغير باصدار اصوات مزعجة بأواني قصديرية وتقليد رقصة الهنود في حوش المنزل، تصفه هي  بالكيوت وتقفز معه كالارنب مطلقة عليه اسم "توكي" التي تعني أرنب بالكوري، بينما تقابله اخته الكبرى بكف على خده لتربيته على حد قولها: انت تشجعينه على اصدار الضجيج بالمنزل، كيف يمكن له ان يكون ضريفا وهو يوقض جدتي المريضة من نومها؟ ألا يمكنكي على الأقل نصحه بالتوقف؟ اعتقد أن كليكما يحتاج إعادة تربية.....صفعة بالصبح وأخرى بالمساء حتى تتعلموا احترام المريض.
تقلب بين الصور التي ضلت تسجلها  منذ ثلاثة اشهر من تعارفهما على الفيسبوك، ولاتزال تتذكر تلك اللحظة التي قام بقبول صداقتها وكيف طارت فرحا غير مصدقة أن شابا وسيما مثله يقبل صداقة فتاة عادية، كانت هي من بعثت له طلب الصداقة عندما كاد الملل يقضي عليها بسبب الحجر المنزلي،  لقد تحدثا كثيرا عن السفر واهدافهما بالحياة وكيف انه مثلها مولع بالثقافة الكورية ومن أشد معجبي فرقة "بي تي اس" الشهيرة. كان هو من العاصمة والتي تبعد عنها بخمس ساعات تنقلا بالباص، طالب في السنة الاخيرة بالجامعة والتي تظهر بوابتها من شرفة منزله كما أخبرها ذات مرة، حيث يكفيه التنقل بدراجته الهوائية للوصول اليها. ومع مرور الوقت ازدادا تعلقا ببعضهما، إذ يتشاركان كل شيء عن بعد كما لو كانا معا؛ يشاهدان الدراما الكورية معا، يتابعان نفس البرامج، وأول ماتطلق فرقته المفضلة أغنية جديدة يتصل بها كالمجنون حتى تكون من الأوائل الذين يشاهدون الكليب....وأمور كثيرة جعلت علاقتهما أكثر من كونها مجرد صداقة.....تحولت مع الايام الى توأمة الروح.
-هي انت! اليوم دورك في مسح أرضية البيت، هيا قومي فورا
تنادي عليها اختها الكبرى هاجر، وهي واقفة امام الباب مشيرة اليها بالمكنسة.
ترمقها سونة بطرف عينها الحادة وهي تتمتم باللغة الكورية لايدري احد غيرها مالذي تعنيه ، تقلب عينيها لتعبر عن سخطها وترمي الهاتف من بين يديها،
-ااااخ ارجوك "أوني" (وتعني الاخت الكبرى) هذا ليس وقته، والله ليس وقت مسح الارض
 تجيبها هاجر بنبرة حادة ووجه صارم:
-وقت ماذا اذن؟ الدردشة مع الصبيان والاستماع لوجع الراس ذلك..ال....كيبوك؟؟
تبتسم سونة لجهل اختها وتكتم ضحكتها بصعوبة، لتعلق عليها في نفسها: كيبوب يا حمارة كيبوب .
مالذي تتوقعه من فتاة توقفت عن الدراسة في المستوى الثالث همها الوحيد في الحياة اشغال البيت وهدفها الاسمى الحصول على زوج يسترها ببيته، مايدريها بثقافات الشعوب وطموح خارج هذه القوقعة التي غرست فيها جذورها منذ اكثر من ثلاثين سنة، ولاتزال تعيش على نفس الوتيرة والروتين، واذا مااشتهت نفسها التغيير خرجت لبيت الجارة تفضفض مع بناتها ،واي مواضيع غير تدابير المنزل واخبار فلان تزوج، وفلانة تطلقت، لتعود للبيت وكلها طاقة وحماس كأنها امضت اجازة على شاطيء ميامي، يالها من حياة بائسة !
تتنهد سونة وتنتزع يدالمكنسة من هاجر  ونظرات المقت لا تزال بعينيها،
-لا تنسي اضافة قطرات الكلور الى الصابون، لقتل الفيروس...(تضيف هاجر قبل ان تنصرف متجهة نحو المطبخ)
ولما تختفي من عينيها ترمي سونة المكنسة وتجري نحو الحوش تنظر يمينا وشمالا تبحث عن اختها الكبرى مروى، هي أقرب شخص اليها في العائلة، بيد انها تكبرها بعامين فقط وقد تخرجت العام الماضي من كلية الاقتصاد، تفضي اليها سونة بجميع اسرارها لانها الوحيدة التي تتفهمها، الا انها نادرا ماتسدي اليها نصيحة ما، فهي مثلها تحب الخوض في المغامرات، تراها جالسة على الكرسي الخشبي في زاوية الحوش تقرأ كتابا، وتعلو الحوش اوراق العنب المصطفة على الشباك، تم تثبيته على شكل سقف للحوش، فتنمو عليه الكرمة معطية منظرا ساحرا من الاخضرار والبرودة .
-مروى...مروى (تجري سونة نحوها، فتضع مروى كتابها جانبا مستغربة)
مروى: ما الأمر؟ خيرا انشاء الله
سونة: احزري من بعث لي للتو؟ (وجلست بجانبها في كرسي الحوش، تتحدث بنبرة حماس):
مروى: من غيره؟ عماد.......ماذا قال لك هذه المرة؟
سونة: تصوري يريد ان نلتقي غدا وقد طلب مني أن اختار مكانا مناسبا....لطالما انتظرت هذه اللحظة (تقفز على الكرسي حتى يهتز بين رجلي مروى)
مروى: (تنظر باستغراب الى الفتاة وهي متحمسة تقفز امامها) مهلا مهلا، اتقصدين انكما ستلتقيان في هذه الضروف الكارثية؟ بينما الشوارع خالية والمرض يفتك بالعالم...وانتي تضربين مواعيد غرامية...اكيد هذه مجرد مزحة منك..صحيح؟
تجيبها سونة بضجر، وكالطفلة تتدلى شفاهها عندما يخيب ضنها:
-لا والله انا جادة، وماالمشكلة اذا ما التقينا بسرعة نتبادل الحديث لدقيقة وخلص! ثم إن الشوارع مكتضة عن آخرها بعدما صرحت السلطات بتحديد ساعات الحجر إبتداء من المغرب حتى ساعات الفجر، لم نتبقى الا نحن مختبئين في حجورنا كالفئران....العالم كله خرج الا نحن
-طيب، مالذي سنقوله لماما؟ اعني لو أن مكتبة الجامعة مفتوحة، أو بعض المقاهي والصالات لتمكننا على  الأقل من خلق كذبة ما.
تبتسم سونة مغمضة عينيها: اها !!! لهذا أتيت لاستشارتك، فأنت أم الحلول والعقل المدبر
مروى وهي تبتسم: لا.. أنت خليك  تعملين مصائب وكالعادة مروى ستخرجك كالشعرة من العجين.

الفصل 2

في غرفة الجدة تجتمع العائلة وتحدث شوشرة كبيرة، والكل يتحدث في نفس الوقت، يبدو أن وضعها قد ازداد سوء، تقر هاجر بضروروة اسعاف الجدة في اسرع وقت ممكن، بينما عمها وزوجته يصران على أنها مجرد نزلة برد وهذا كله حتى يتفادى العم نقلها بسيارته، لأن زوجته المتملكة البخيلة تمنعه من مشاركة اغراضها معهم، وتكره ام زوجها لدرجة لما سمعت بمرضها رفعت يديها سائلة الله أن يأخذ أمانته في اسرع وقت.
وسط كل الشوشرة ارتفع صوت رقيق قائلا: إنها كورونا....جدتي مصابة بمرض الكورونا
صعق الجميع لسماع ذلك والتفتوا الى الصغير ميدو الذي يجلس بجانب جدته متأملا تفاصيل وجهها، ويحاول فحصها بعينيه الصغيرتين
-بعيد الشر! (نطقت العمة رغد بأعلى صوتها) أهذا ماتتمناه لجدتك أيها القرد الصغير،
فأجابها ميدو بكل براءة: لكن عمتي رأيت في الأخبار أن المصاب بمرض كورونا تظهر على جلده بقع حمراء، أنظري (يشير بأصبعه الى وحمة على يد جدته) توجد هنا بقعة كبيرة، قد تكون بسبب الفيروس.
تتدخل أمه لاسكاته لكن العمة تمنعها وتقترب من والدتها الغائبة تماما عن وعيها، لترى الوحمة، ومن هول الصدمة تبتعد عنها فورا وتبعد الصغير وتقول بصوت متوتر:
-أي والله الصبي على حق، فيه وحمة هناك، ثم ان صوت الشخير هذا لا يبشر بالخير.
وبينما الجميع في غرفة الجدة، تجلس الأختان مروى وسونة رأسا برأس يناقشان بصوت خافت مخططهما في الخروج يوم غد، بيد أن اللقاء مع الشاب عماد ذو الملامح الكورية أهم اليهما مما يدور بالمنزل، ولما ارادت مروى التطفل على مايحدث في تجمع العائلة، أوقفتها سونة: دعكي من وجع الرأس، والله البقاء هناك لا يفيد، اصلا لا أحد يأخذ برأينا، وصوت تلك الأفعى (زوجة عمها) سيطغى، وكلامها سيعلو على الجميع...
وضلت تريها بعض الرسائل التي تبادلتها مع عماد منذ قليل: انضري اخبرته انني بحاجة لاقناع ماما اولا.....ماهي خطتك اذن؟
تتنهد مروى وتجيب: -ايييه....صراحة، لست متأكدة من نجاح الخطة، لكني قبل يومين اخبرت ماما باني سأخلع ضرسة تعلمين؛ هذه التي توجعني كثيرا، هذا لأن العيادات لحد الآن هي الوحيدة المتاحة للناس.
سونة: هممم، لكن ماذا لو طلبت من عمي ايصالك؟ انا متأكدة من أنها ستفعل على كل حال
مروى: صح، خططت لكل شيء، أصغي الي: هناك احتمالين اذا اصرت على الذهاب مع عمي انت على كل حال سترافقينني، حينها ستطلبين من عماد المجيء امام العيادة، وانا سأخبر عمي انك ذاهبة الى الحمام، تحدثي معه عشر دقائق ثم اهبطي الى السيارة، اما الاحتمال الثاني اذا قبلت ان نذهب مشيا على الاقدام بالتأكيد ستطلب من القرد ميدو أن يرافقنا، الا ان الصغير يسهل خداعه سأخبره ان الشاب يدرس معك بالجامعة، واذا لاحظ انكما تبدوان غريبين عن بعض سآخذه معي الى المنتزه وانت خذي وقتك.......اتفقنا؟
-اوووه يالك من عبقور خطير بالفعل ! سأخبر عماد بان نلتقي امام العيادة، أتمنى أن يتفهم الأمر، لأنه لايتوقف عن وصفنا بالمعقدين ويسألني دوما: كيف تفكرين في السفر خارج البلاد في حين لاتستطيعين الخروج من حوش بيتكم دون اذن وحراسة مشددة؟ الست بالغة الآن؟!
-وكيف يفكر هو بالسفر بينما لا يتفهم مبادئ غيره؟ الا يعلم أن قريتنا متحفظة جدا، وأن رفض ماما لخروجنا بلا ولي لايعكس قلة ثقتها بنا، بل فقط لأن مجتمعنا الضيق يصب اعينه علينا نحن الصبايا، خاصة وأن والدنا متوفي.....كلام الناس لايرحم.
سونة بغرفتها تفرش خزانتها، تحاول انتقاء الالوان بعناية، تمرر القطع بين كتفيها مرة قميص ومرة سترة تعرضها امام المرآة واحدة تلوى الأخرى، حتى سمعت أصوات تتعالى في غرفة الجدة، فترمي كل ما بيدها وتجري نازلة الدرج لتقابل أختها الكبرى هاجر :
-خيرا مالذي حدث؟ هل جدتي بخير
تجيبها هاجر وهي تدفعها للوراء: لاشيء، مجرد خلاف بين عمتي رغد وزوجة عمي ميسون، السبب انها طلبت من عمي أن يأخذ جدتي للمستشفى فتدخلت زوجته قائلة بأنه وعد الأولاد بأخذهم للبحر
بحر؟أليست الشواطيء مغلقة؟
نعم، هذا ماقلته لها، فصرخت في وجهي: "وماشأنك انت؟ سيرون البحر من داخل السيارة ثم لاحاجة لي بتفسير كل شيء، الجميع هنا لديه مايكفي من المال  لشراء طيارة، لكن أعينكم منصبة على بيتي، دايما....دايما..، أغراضي ليست ممتلكات عامة." تصوري بعدها كيف ثارت عمتي بوجهها كادت تقتلها (وضحكت ضحكة خفيفة)
وسونة مصدومة لما سمعته، يعني مخطط ذهابهم بسيارة العم قد ألغي، تشرد بتفكيرها قليلا، ثم تضيف هاجر:
-أليس من العيب أن تقول ذلك الكلام كله، خاصة أمام جدتي.
فتجيب سونة على عجله: ايه والله عيب، ميسون صورة بشرية للجهل بعينه، ياخسارة !
يخرج العم من الغرفة وينادي على سونة: تعالي يا سناء، انت سترافقيننا للمستشفى
تتفاجأ سونة بالأمر وتشير الى نفسها مستغربة: أ..انا؟ ولم انا ياعم....اقصد قد تود أمي مرافقتكم، أو هاجر مثلا...أوني لم لاتذهبين معهم ؟؟؟
فيقاطعها عمها بنبرة صارمة: انت يعني انت، جدتك تريد منك مرافقتها، قالت لا أريد أحدا غير سناء يأتي معي.
تشجعها هاجر على الذهاب وتقنعها بأن الجدة لا تتحمل أحدا في هذا البيت غيرها والصغير ميدو، فتوافق لكنها تطلب من عمها أن يعطي لها وقتا لتغيير ثيابها، فيخبرها انها ليست بحاجة لفعل ذلك، بيد انها لن تهبط من السيارة وزيارة الجدة للطبيب لن تستغرق نصف ساعة.
وافقت سونة وأخذت بيد جدتها هي وعمتها ميسون لمساعدتها في الركوب بالمقعد الأمامي، ثم ركبتا بالمقاعد الخلفية، وكانو جميعا يرتدون أقنعة طبية، ثم انطلقوا نحو المستشفى.
كانت الساعة تشير الى السابعة مساء، وزوجة العم لاتزال تغلي بسبب الاستعانة بزوجها كلما حدث أمر طارئ في العائلة وكانه رجل اسعاف. أم هاجر طلبت من بناتها تجنب الرد عليها، لترد عليها مروى: انا ذاهبة لأستحم، دعوها تغلي هناك حتى يجف حلقها ثم تعود لحجرها...... كالعادة.
عندما تدخل هاجر إلى غرفة سونة تلاحظ الكم الهائل من الثياب فوق السرير، وتعلق ساخرة:
-اييه، لابد ان البنت تضرب المواعيد وراء ضهر ماما، واحنا لاخبر! هذي مجوهرات، وهذي ثياب راقية...
وكانت سونة قد نسيت هاتفها بالغرفة ولسوء حظها قامت بإلغاء كلمة السر، حتى تتمكن مروى من قراءة رسائل عماد، فاغتنمت هاجر الفرصة وأخذته لتفتش فيه، لتقابلها خلفية الهاتف وهي صورة  شاب وسيم واقف امام فوارة يبتسم وعمل اشارة قلب بيديه، وعلقت الاخت الكبرى بسخرية: الله الله! هذا لن يكون الا فنان من الكيبوك الذي تتابعه المخلوقة!
ثم تفتح الفيسبوك وتفتش في الرسائل: آخر محادثة...منذ ساعة: احبك، قبلة
تتسارع ضربات هاجر وهي تفتح المحادثة وكأنها على وشك اكتشاف سر خطير، تقرأ آخر رسالة وهي لعماد :  لقد وجدت في خريطة جوجل عيادة الدكتور حسن، لاتقلقي سأكون هناك على الساعة الحادية عشر زوالا، وسأنتظرك انت واختك....باي قبلة
يكاد قلب هاجر يتوقف، عيادة من؟ اخت من؟ تحاول قراء الرسائل السابقة بالأعلى لكنها تسمع صوتا قادما الى الغرفة وترمي الهاتف بين الثياب.
تدخل مروى وبرأسها منشفة تغطي شعرها المبلل، لتتفاجأ بهاجر هناك
مروى: هذه انت! هل اتصلت سونة؟ كيف هي الجدة؟
هاجر: سونة الغبية نسيت هاتفها
مروى:اوه حقا؟! المسكينة لم يترك لها عمي حتى مجالا لتغيير ثيابها، ذهبت بشبشب البيت.
تلتقط مروى هاتف سونة وتلاحظ بأنه غير محصن بكملة سر، فتتوسع عيناها ثم تحاول اخفاء توترها بابتسامة في وجه هاجر : عادي، قد تعود بعد لحظات.
تقف هاجر بجانب كومة الثياب، ويديها على خصرها محاولة التحقق من أمر ما، تلك النظرات الصارمة توحي لمروى بأن هناك أمرا ما قد اكتشفته...
هاجر: وما كل هذه الثياب؟ هل يقيمون حفلات في عز الوباء ياترى؟
تتلعثم مروى: ااه، ههه اكيد لا.....أقصد هي فقط تحاول ترتيب خزانتها....هذا واضح.
تقترب هاجر من سروال جينز موضوع على طرف السرير مع تيشرت صيفي وحقيبة صغيرة، كانت القطع مهيأة وتم اختيارها بعناية من بين الثياب، مايوحي بأن الأمر لايتعلق بترتيب خزانة، وكان هناك زوج من الاحذية تم مسحها وعزلها في الزاوية، كلها دلائل تشير الى الاستعداد للخروج في موعد مهم.....موعد غرامي.
مروى تتبع حركات أختها الصارمة محاولة قراءة تعابير وجهها، لعلها تستنتج ما إذا كانت قد اكتشفت الامر أم لا، وتحاول التظاهر بأنه لا شيء مثير للريبة، فتحاول تغيير الموضوع: يجب أن أتصل بعمي للاطمئنان على جدتي.
تنصرف هاجر دون أن ترد عليها، وتغلق الباب بقوة، فيرعد صوته مفاصل مروى، لتعلق:
الله يستر! الأمر لايبشر بالخير.....ماذا فعلتي ياسونة.....

الفصل 3

سونة بالسيارة منذ أكثر من ساعة تنتظر عميها، لعل أحدهما يأتي لها بخبر ما، لا هاتف ولا أثر لمخلوق يمكنه اخبارها بما يحدث في الداخل، تتساءل ما الفائدة من وجودها هناك.
 لم تتمكن من الخروج بسبب هندامها المشوش، ، لديها عقدة من مظهرها، تحب دوما الظهور بصورة مثالية، بشعرها المسرح وثيابها الأنيقة، وكما تقول دوما لنفسها بالمرآة: وجهي ليس عربيا....لابد أن خطأ جغرافيا قد حدث، لم يكن علي ان أولد في إفريقيا الملعونة....لابد من وجود خطئ ما.
 إلا أنها عندما تكون بالبيت تتحول لكائن آخر تماما، فهي عادة ماترفع شعرها الطويل للأعلى بشكل عشوائي ثم تربطه بخيط لاستيك رفيع لتصنع كعكة، وترتدي كنزة مزركشة من بقع الزيت والكلور ألوان مجهولة المصدر المهم بها غطاء رأس تخفي بجوانبه سماعاتها، وهو المظهر الذي خرجت به الآن، مرتدية شبشب غرفة النوم.
وبينما هي تطل من نافذة السيارة، وقد نفذ صبرها: من سيخبرني الآن اذا كانت جدتي بخير أم ماتت؟ ماذا لو ان عمتي انصدمت واغمي عليها، اصلا هذا الذي أتيت من أجله، لابد من البقاء بجانب عمتي، وإلا ستخبر أمي بأني عديمة الفائدة......حسن سأخرج! أصلا الناس هنا جميعا خرجوا على غفلة، ثم إن هذا القناع الطبي سيغطي جزء كبيرا من وجهي، (فتلبس الكمامة وترى نفسها في المرآة) ثم تقوم بانزال غطاء الكنزة على رأسها:
اي والله نجح الأمر من سيتعرف علي الآن؟.......اصلا هل هناك كائن على كوكب الارض يتزين قبل الذهاب للمشفى؟ اكيد لا! انا الكائن الوحيد الذي يفعل ذلك، سأخرج الآن.
تندفع الفتاة من الباب لتجد نفسها في رواق المستشفى، وحالات الطوارئ لاتتوقف بسبب جائحة المرض، فتأخذ بيدها ممرضة ترتدي بدلة طبية خاصة بالوقاية من الفيروس، بحيث تخفي جميع اجزاءها، وكأنها مكوك فضائي على سطح المريخ، تحاول سونة الاستفسار عن الامر لكنها سرعان ماتجد نفسها امام جهاز قياس الحرارة، ثم تعطي لها معقم اليدين، ويتم رش جسمها بالكامل بمادة مطهرة، وتؤخذ بسرعة الى ركن خاص باستقبال وتنظيم زوار المرضى، لتتحدث الممرضة أخيرا: ما اسم المريض؟ تجيب سونة وقد نسيت إسم جدتها من هول ماحدث للتو: اه....انها جدتي.....اقصد جليلة محمد علي....عمتي هنا ايضا..و
تقاطعها الممرضة: اذهبي الى الطابق الاول الغرفة رقم 6، وحاولي الا تلمسي شيئا امامك.
-حسن! (وتجري سونة كطفلة صغيرة متجهة الى الطابق الاول)
تجد عمتها تنتظر بجانب الغرفة، والدموع بعينيها، وقبل ان تنطق سونة تشير اليها عمتها لتلقي نظرة نحو الداخل من خلال الزجاج، فترى جدتها محاطة بأنابيب وأجهزة كثيرة، ترفع سونة حاجبيها ولا تشعر بالدموع وهي تتساقط من عينيها: مالذي حدث لجدتي؟ يالهي مابها؟
تجيبها العمة بصوت ضعيف: يرجح الأطباء انها كورونا.
مستحيييييل! أعني.. كيف؟ من أعداها المرض، لاأحد يخرج من المنزل غير عمي وزوجته، بالمناسبة اين هو الان؟
تجيب العمة وهي تهز رأسها: ايه بالضبط من غيره؟ هو وزوجته سبب شقائنا، انه في غرفة الفحوصات، لقد تم اغذ عينات من المخاط، وسيأتي دورك ايضا، قد نكون جميعا مصابين بالمرض الله يستر
سونة: يا ربي! تقصدين اني قد أكون الآن مصابة به؟ وسوف أموت؟ يالهي سوف أموت.....ياماما....
وبدأت سونة بالنحيب، تكاد رجليها لاتقوى على حملها، وتأمرها عمتها بالتزام الهدوء، والصبر الى ان تخرج النتائج
-ناوليني الهاتف، اريد الاتصال بماما.....(وهي لاتزال تأن من البكاء) ساتصل بهم ربما سأودعهم.....ياالهي لا اصدق اني سأموت.
ترمقها عمتها بنظرات مرعبة، وعينيها محمرتان تهددها بضربة الى الرأس بالشبشب إن لم تلتزم الصمت:
العمة: أقسم بالله ان لم تتوقفي عن لفت الانظار الينا سأفجر رأسك بهذا (مشيرة الى قدمها)، لن اناولك الهاتف اتصلت بامك واخبرتها ان كل شيء على مايرام، مالداعي لاخافتها في هذا الوقت ولاوسيلة لهم للمجيء الى هنا.
 سونة: أخبريها على الاقل اننا قد نموت في اية لحظة، المرض لايرحم.
يخرج عمها من الغرفة، هابطا برأسه ومرخيا كتفيه، فيقترب منهما:
العم: أعتقد ان لدي أيضا نفس الأعراض، إلا ان جسمي قد تماسك عكس أمي....مسكينة.
فتصرخ العمة بوجهه وترمقه بنظرات الكره: أكيد ستقاوم، فأنت وزوجتك بجثث كالبغال لن يصيبكم شيء، السوء سيصيب ضعاف الجسد مثل أمي المسكينة.
يقترب العم من أخته عازما على صفعها لكنه يتردد، بيد أنه قد تفهم ذلك الوضع مشحون بالقلق والخوف من الموت، واستدار نحو الزجاج ملقيا نظرة أخيرة لأمه قبل أن يغادر المكان.
خرج الطبيب من قاعة الاستعجالات، فهرعت اليه العمة: خيرا دكتور
الطبيب: أمك في حالة مستقرة، لم تستطع التنفس فاضطررنا لاخضاعها لتنفس اصطناعي، وريثما تخرج نتائج التحليل بعد ساعات، سنقرر ان كان ضروريا نقلها للقسم الخاص بمكافحة كورونا، وهل هذه الفتاة معكم؟ (مشيرا الى سونة)
تجيبه سونة فورا: اجل...انها جدتي.
الطبيب: تعالي معي اذن، ستخضعون جميعا إلى تحليل للفيروس، وفي ضل انتضار النتائج سيتم تحويلكم إلى فندق تابع للمشفى، يتم عزلكم هناك، واذا لا سمح الله حصلنا على نتيجة موجبة، سنعيدكم الى المستشفى لمتابعة العلاج
سونة: أتعني أنه سيتم عزل أهلي جميعا؟
الطبيب: بالضبط! وهذا تفاديا لانتشار الفيروس،سنأتي بهم جميعا للخضوع لفحص فوري، فنحن عندما نكتشف حالة مشبوهة نقوم بارسال سيارة إسعاف الى منزله، ويتم رش المكان عدة مرات، وكل من تعامل معكم سيخضع للفحص، هذه تعليمات وزارية ولسنا نحن من وضعناها.
سونة: يالهي! هذا فضيع لابد من اخبار امي بهذا الأمر.

الفصل 4

تتصل سونة بأمها بعدما اقنعت عمتها بضرورة اخبارهم، ينصدم الجميع لسماع الخبر خاصة وأن سيارة الاسعاف في طريقها الى بيتهم، تهرع هاجر   لجمع ألعاب ميدو بالحوش مع كل القصور التي بناها بالوحل بينما تنادي على مروى لإفراغ سلة النفايات الممتلئة عن آخرها.
وتجيبها مروى بضجر: اووف وكأنك على وشك استقبال خطاب، من سيلاحظ هذه الاشياء، إنهم ممرضون ورجال الحماية المدنية سيأخذوننا معهم وينتهي الامر،
-لا اريد من احد ان يسخر من حالتنا الفوضوية، عندما يرون كل هذه النفايات لن يستغربوا كيف دخل المرض الينا، هيا نفذي ماقلته لكي واسكتي.
وما إن تلف هاجر خمارها حتى تسمع صفارة سيارة الاسعاف تدوي بالقرب من منزلهم، ويجري الصغير ميدو وهو ينادي باعلى صوته: ماما ماما لقد وصلوا ! انهم هنا
تخرج زوجة عمه مفزوعة: من وصل؟! من؟
ميدو: رجال الاسعاف، سيحتجزوننا في غرفة مغلقة، حتى يذهب الفيروس عنا
زوجة العم: الله اكبر! فيروس؟ لم لم يخبرني احد؟
ميدو: انت اغلقت الباب علينا، لذلك لم نستطع اخبارك بأن جدتي قد اصيبت بالفيروس حقا، وقد يكون عمي من اعداه اياها لانه لا يحترم الحجر الصحي.
تثور زوجة العم لسماع هذه الاتهامات الخطيرة، ثم تهم بضربه، لكنه يفر منها قبل ان تفعل ذلك.
ينزل رجال الاسعاف، وبيد احدهم انبوبا ضخما استعدادا للرش، ويطلبون من الجميع مغادرة المنزل والركوب فورا بالسيارة، يتم نقلهم الى المستشفى لاجراء التحاليل، وهناك يلتقي الجميع امام مختبر الفحوصات، وترى هاجر جدتها محاطة بالانابيب، وتبكي مروى لهول المشهد، أما العم يلتقي بزوجته واولاده ويأخذهم الى زاوية بعيدة لتفادي المشاحنات،
تطلب أم هاجر من الجميع الدعاء للجدة بالشفاء، وأن يحميهم من المصائب الكبرى، كان الجميع يحب الجدة خاصة أم هاجر بحكم انها الوحيدة التي وقفت في محنتها بعد وفاة زوجها، ولم تتوقف يوما عن الدفاع عنها أمام العم وزوجته.
تتذكر سونة أمر عماد، وتقترب من مروى لتهمس في أذنها: -أين الهاتف؟ لابد من اخبار عماد بعدم المجيء
تفتش مروى في حقيبتها، لتنصدم بعدم وجوده هناك.
-سبحان الله! كيف اختفى، والله قد وضعته هنا، أول شيء قمت به فورا بعد  اخبارك لنا بمجيء سيارة الاسعاف، لا أفهم كيف اختفى
ثم تقلب مروى الاغراض مرة اخرى لتلاحظ بأن جوالها ايضا قد اختفى من الحقيبة!
تنتزع سونة الحقيبة من يد مروى، وتفتش كالمجنونة تكاد تفرش كل شيء على الارض، لولا ان الجميع هناك منشغل بالمصيبة التي حلت بهم فجأة.
-مهلا! (تتذكر مروى لحظة خروجها لافراغ سلة الفضلات) اعتقد أن هاجر هي من قامت بأخذه.
سونة: هاجر؟ كيف؟....كيف هاجر؟ وضحي!!
مروى:عندما خرجت من الحمام وجدتها تقلب في اغراضك، اعتقد أنها فتشت في هاتقك ايضا، وربما رأت رسائل عماد، ياالهي اتمنى ان لا يكون الامر كذلك....وبعدما تلقينا اتصالا منك
سونة: ليتني عملت بنصيحة عمتي، ماكان يجب علي إخباركم يا وجوه الهم....اااخ سينتهي أمري اليوم، كورونا، هاتفي اختفى، وعماد قد يأتي من العاصمة الى هنا كي لايجد احدا، فيعتقد بأني فتاة لعوبة.....يالسوء حضي
مروى: لا تلقي اللوم علي، أنا فعلت مابوسعي لاخفاء الأمر، سنحاول ايجاد حل سريع لهذه المعضلة
تلاحظ الام ابنتيها وهما يتهامسان في زاوية بعيدة، وتشير اليهما بالاقتراب، وتغتنم فرصة غياب عمتهما، لتقول لهما بصوت حاد وهي تجز اسنانها: قسما بالله ان لم تتوقفا عن الوشوشة هذه امام الناس سأفرج العالم فيكم، خاصة انت يا أم المصائب (مشيرة الى سونة بسبابتها ) حسابك معي فيم بعد، الناس تموت وانتي لاهية باللعب مع الصبيان.
اصفر وجه سونة وكأن الروح قد خرجت من جسدها، وفقدت حسها تماما بعدما تأكدت من أن الخبر قد وصل هاجر، التي بدورها فضحتها امام والدتها، تبتلع ريقها وتحاول استعطاف والدتها بصوت مرتجف: أ...امي...ماما لاتسيئي فهمي...أرجوك دعيني أوضح الأمر.
وتقاطعها مروى متبرئة تماما من أفعال سونة: امي وماذنبي أنا، ارجوك ناوليني الهاتف، والله لادخل لي فيم يحدث.
ترى الام عمتهما قادمة فتفضل السكوت وتترك البنتين ترتجفان أمامها ، ثم تأتي هاجر بكأس ماء لأمها، وتتبادل النظرات مع أختيها، نظرات توحي بالاستياء وخيبة أمل.

الفصل 5

في غرفة بالفندق، تطوف سونة جيئة وذهابا في محاولة للعثور على حل، كيف ستخبر عماد بان الموعد قد ألغي، وعندما تنسى امر عماد، تجد نفسها أمام الهم الأكبر وهو أمها واختها الكبرى، تذكرت ايام كان والدها حيا قبل سنتين، لم تكن والدتها بتلك الصرامة والبرود، بل ولم تسألها قط عن وجهتها أو مع من كانت، تركت هيبة زوجها تتكلف بمهمة التحكم فيهن، حتى عمها لم يكن ليتدخل في حياتهن، لكن تغير كل ذلك الآن ولم تعد الامور كما كانت في السابق.
-أعتقد أن هناك محلا للانترنت قريبا من هنا، (تلقي نظرة من النافذة، ثم تعود لتجول بنظرها في زوايا الغرفة) أيعقل أن يتم بناء فندق كهذا ولايتم تزويده بالنت؟!......اااه يالي من غبية...المشكلة ياحمارة ليس النت.....بل الجوال.......اين الجوال....من المؤكد أن الغرف فيها الوايفاي....وقد تكون هاجر الان تتحدث مع عماد.....ايييي يارب يكون جوالي عند ماما..على الأقل هي لاتعرف كيف تفتشه ..يا ربي استر...(تتحدث سونة كالمجنونة وحدها، عازمة على قضاء الليلة صاحية حتى الصبح)
تسمع طبطبة خفيفة على الباب، فتجري لتفتحه معتقدة انه احد أهلها، لتقابلها موضفة الفندق مغطية جسمها بالكامل، وهي تجر طاولة متحركة بها انواع الطعام، تناولها صينية العشاء ثم يخرج صوت رقيق تحت الثياب البلاستيكية: بالهنا والشفا
-اه شكرا جزيلا....سيدتي رجاء....هلا..هل استطيع استعارة هاتف منك (تشعر سونة بالاحراج لطلبها الذي يبدو غبيا في تلك الضروف العصيبة)
-آسفة جدا يا آنسة، لقد منعنا من التعامل المباشر مع المرضى، اسفة جدا (وتغادر الموضفة وكأنها روبوت متحرك)
تفقد سونة آخر فرصة لها، ثم تدخل الغرفة مستسلمة لكل شيء وتتنهد قائلة: وكلت أمري لله، يا ربي أسلكها على خير....
تسمع قرعا على الباب، وتفتح سونة عينيها لترى الساعة تشير للثامنة صباحا، فتهرع لفتح الباب وكالعادة تقابلها موضفة اخرى  مقنعة تناولها الفطور بجانبه ورقة، ثم تغادر بنفس العبارة: بالهنا والشفا.
تتجاهل سونة الفطور وتفتح الورقة لتقرأ العنوان: نتائج التحاليل، تتسارع ضربات قلبها بينما تتنقل عينيها بين السطور بحثا عن النتيجة، لتظهر علامة زائد عملاقة تحت النص الطويل مشيرة الى نتيجة موجبة لاصابتها بالفيروس، تضع يدها على قلبها تتفحص ضرباته، وترمي الورقة لتنهار بالبكاء، تستصغر كل شيء في حياتها ولن يشغلها إلا التفكير في الموت ومغادرة هذا العالم، فتشتاق لأهلها، يتخلجها شعور بالندم كونها خيبت ضن امها، تتأمل في جسمها الذي يجري فيه الفيروس القاتل مجرى الدم، ثم تجهش بالبكاء مرة اخرى، حتى تشعر بأنفها قد انتفخ كفاية، ورأسها سينفجر من الوجع من كثرة البكاء.
تلقي نظرة الى الفطور وشهيتها منعدمة تماما، لتتفاجأ بالجوال داخل علبة بلاستيكية، تفكر طويلا وتطيل النظر لتتأكد من أنه جوالها، تنظر بعيدا دون التحرك وتشعر بشلل في اعضاءها، كأنها لاتريد رؤية الهاتف، كيف ذلك وهي التي كانت مستعدة للقفز من النافذة ليلة امس حتى تتمكن من استرجاعه! إنه ذلك الشعور الرهيب بقروب الموت، صحتها في الحضيض، نعم لقد فقدت طعم الحياة.
تمسح دموعها وتنهض من على الأرض، تأخذ الهاتف، تشعله ودون تفكير تتجه نحو قائمة الاتصال وتختار رقم عماد لتتصل به، تسمع صوت الرنة قد طال معتقدة انه لن يجيب، ثم يرد عليها اخيرا: نعم سونة، صباح الخير
تسمع سونة صوته، فتهرب الكلمات من لسانها، صوته الحنون يجعلها تذوب شوقا لتوأم روحها، تتلعثم ولاتعرف مالذي ستقوله، لكنها تتذكر كابوس ليلة أمس وكيف انها ارادت الصراخ من النافذة لتخبره بالغاء الموعد، آملة ان يصل صدى صوتها الى بيته.
سونة: صباح الخير عماد، كيف الحال؟
عماد: انا بخير عزيزتي وانت؟
سونة: انا لست.......نعم انا بخير الحمد لله
عماد: لا أنت لست كذلك! اعتقد انك لست بالبيت هل أنا مخطئ؟
تبعد سونة الهاتف من أذنيها وتتفحص صورته، هل هو فعلا من يتحدث معها!
سونة: غير معقول!! كيف عرفت ذلك؟ لم انم ليلة امس افكر في مجيئك....حتى أن والدتي على علم بأمرك.
عماد: أجل عزيزتي، اعلم......هههه تعتقدين اني امزح اليس كذلك؟
سونة: اخبرني ارجوك كيف عرفت كل هذا؟
يضحك عماد ضحكة لطيفة، ويجيبها بسرعة: تحدثت مع أمك، ههههههه انها طيبة جدا
ترفع سونة صوتها حتى يتردد في أرجاء الغرفة: أمي؟ تحدثت مع امي مستحيل، لالا...انت تمزح....مست...
يقاطعا عماد ضاحكا: دعيني اوضح لك، اتصلت بك امس بعد المغرب لأسألك عن موعد اليوم فتجيبني أمك بحدة وتسألني: هيي أنت! ماذا تريد من ابنتي؟ (وهو يقلد صوتها وسونة تضحك بتوتر غير مصدقة ماتسمعه)
سونة: يالهي، وكيف أجبتها؟ هل شتمتك أو شيء من هذا؟
عماد: لالا في البداية توترت قليلا، ثم استنتجت وحدي بأنها قد خطفت منك الجوال، طمأنتها بأني لا أريد التلاعب بابنتها، واخبرتها اني معجب بك كثيرا ولاعيب في ذلك، الست محقا؟
تبتسم سونة برقة، وتشرق عينيها فرحا، وتشعر بحب شديد يقتحم قلبها بعنف، ثم تحييه على شجاعته، رغم أنها غير متأكدة من نتيجة مافعله، فأمها الصارمة يصعب جدا استعطافها بهذه الكلمات، ويضيف عماد:
لقد صرخت بوجهي، و...بصراحة.....شعرت في تلك اللحظة كما لو أني مجرد لقيط يتلاعب ببنات الناس (يطلق قهقهة طويلة) تصوري من شدة خوفي منها اخبرتها اني اريد خطبتك.
سونة (بنبرة حزينة): اعتقدت انك شجاع كفاية لتعني ماتقوله، لكنك في النهاية... انت فقط تحاول التهرب من أمي.
تلقي بنظرها الى الارض،وتتحسس بأصابعها الرقيقة أطراف اللعبة التي وضع فيها الهاتف، وكأن ضنها قد خاب قليلا، فلو أنه كان يعني مايقوله لطارت فرحا، حتى تنسى أمر مرضها.
ويضيف عماد بنبرة جادة:
سناء! (وهو الذي كان يناديها باسم الدلع منذ تعارفهما) أنا حقا أنوي خطبتك....انا جاد ولست اقول ذلك خوفا من والدتك.
تتوقف سونة عن التفكير كما حدث لها منذ قليل عند تلقيها لخبر اصابتها بالفيروس، لم تستطع استيعاب ذلك الكم الهائل من الأخبار التي ضلت تتوالى واحدة بعد الاخرى، فتضحك بصوت يسمعه عماد، وذلك من طبائعها أن تتصرف بعفوية كلما شعرت بفرحة تغمرها، تماما مثل طفلة صغيرة، تترك قلبها يتصرف كما يشاء:
-مالذي تقوله أيها المجنون؟! (وهي لاتزال تضحك بشكل هيستيري) كيف تخطبني ولم نلتقي ولامرة في حياتنا....هههه يامجنون لابد أن صوت أمي قد أفقدك صوابك....اليس كذلك؟ اعترف هيا....هيا ياعماد...تريد خطبتي اه ههاهاااههههه
يضحك عماد كذلك عندما يسمعها تتحدث بتلك الطريقة الهيستيرية، ويزداد تعلقا بشخصيتها المرحة.
عماد: أنت هي المجنونة، انا وأمك اتفقنا على تاريخ الخطبة.
تعلو قهقهة سونة وتبدو كالثملة، تضحك لكل شيء تسمعه، لأن عقلها لم يستطع تقبل حقيقة مايحدث، كيف يعقل ذلك؟ حديثهما كان دوما عن السفر والامور التافهة، كيف قرر فجأة اخذ خطوة كهذه؟ هل هو تهور منه، أم شجاعة؟ لم تستطع تصنيفه بعد، تشعر بالخوف والسعادة في نفس الوقت، ترتجف فرحا وخوفا، اختلطت عليها المشاعر ولم تدر مالذي تشعر به، يتفهم عماد حالتها، ويحاول تغيير الموضوع بالسؤال عن حالها: 
عزيزتي، أرجو أن تكون نتائج التحليل سلبية، حتى اتمكن من رؤيتك، ارجوك عندما تتلقين النتائج اخبريني ليطمئن خاطري،
فتجيبه بسرعة: حسن....حسن...
عماد: على كل اقرئي ماكتبته لك على الواتساب، وستفهمين كل شيء.
يقطع الاتصال بعد توديعها، وتمسح سونة الدموع المنهمرة من كثرة الضحك، وهي التي كانت منذ قليل تبكي حزنا على صحتها....يأتي الى بالها فجأة ان تتصل بأمها لتسأل على نتائج التحاليل، ثم تحدثها عن عماد.
تسمع صوت أمها، لكن هذه المرة يبدو أحن من ليلة امس:
الأم: استرجعت الجوال اخيرا يا أم المصائب، كيف هي نتائج التحاليل ؟
تتلعثم سونة وتدعي بأنها لم تلقى النتيجة بعد: وكيف هي نتيجة تحاليلك؟ 
الأم: بخير الحمد لله، حاليا النتيجة سلبية لكن الدكتور اخبرني بأن البقاء في الحجر الصحي امر لابد منه، وقد يعيد اخذ عينات اخرى لانه كما قال قد تكون النتيجة سلبية حتى عند شخص مصاب بسبب عدم انتقال الفيروس الى المجاري الهوائية، او شيء كهذا لانه حاول تبسيط العبارات المعقدة لي....
سونة: لا...ان شاء الله ستكون هذه النتيجة نهائية، وماذا عن الآخرين؟
الأم: لم تصلهم النتائج بعد، عمك اتضح انه مصاب، الله يشفيه
سونة: الله يشفيه.....و.....(تحاول سونة جلب موضوع عماد لكن امها تشعر بالامر قبل ان تتحدث ابنتها).
الأم: تحدثت مع ذلك الشاب عماد، وقدم لي والدته وتحدثت معها
سونة: الله اكبر! تحدثت مع ام عماد، يالهي لا اصدق كيف تحولت علاقة صداقة الى مسألة عائلية بين ليلة وضحاها؟ امي لم كل هذا؟
فصرخت الام على سونة: صداقة؟ الله على الصداقة ! اخبرتني هاجر أنكما تتبادلان رسائل غرامية، ولولا ضيق الوقت لطلبت منها ان تقرأ لي كل الرسائل التي تتبادلانها منذ شهور.
سونة: لكن أمي، هكذا انت تشوهين صورة بناتك، تصوري مالذي ستفكر فيه والدته، ستقول بأن هذه الأم تعجل زواج بناتها وكأنهن سلع رخيصة......وربما لانه لا أحد تقدم لخطبتهن .....المهم سيكون هناك انطباع سلبي عنا...صدقيني.
تسكت والدتها برهة، ثم تضيف كلمات اخيرة قبل ان تقطع الاتصال: 
هي أم وأنا أم، هي كذلك عندها طفلة في مثل سنك، من الطبيعي اذن ان تتفهم سبب خوفي على بناتي، خاصة  اني انا الاب والام في نفس الوقت...على كل...ان فهمت فهي على عيني وراسي...وان لم تفهم الله لا يردها هي وابنها، لست أقلل من شأنكن، بل العكس انا مستعدة لأواجه العالم بأسره من أجل سعادتكن، ولست أخشى احدا.....انتي تعلمين جيدا ما أكرهه....مراوغاتك تلك لتنالي مبتغاك....مخططاتك وراء ظهري انت واختك ......هذا ما اكرهه يا بنتي...كوني صادقة معي وسأكون صديقة لك.
تغلق الام دون انتضار رد من ابنتها، تتأثر سونة لكلام أمها وتتمنى لو أنها بجانبها لتقبل رأسها وتحتضنها بقوة، ليتها قامت بتسجيلها لتجعل ما قالته شعارا في حياتها، تغير كل شيء بين اليوم وأمس...كأن بينهما دهرا...كأنه عمر جديد لسونة التي صارت تفكر كمسؤولة عن حياتها....اصبحت الآن تفكر كزوجة.. كأم ..كأب....أو ببساطة كامرأة.

تعليقات